سورة الذاريات - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الذاريات)


        


{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)}
كالتفسير لكونهم محسنين، تقول حاتم كان سخياً كان يبذل موجوده ولا يترك مجهوده، وفيه مباحث:
الأول: {قليلاً} منصوب على الظرف تقديره يهجعون قليلاً تقول قام بعض الليل فتنصب بعض على الظرف وخبر كان هو قوله: {يَهْجَعُونَ} و(ما) زائدة هذا هو المشهور وفيه وجه آخر وهو أن يقال كانوا قليلاً، معناه نفي النوم عنهم وهذا منقول عن الضحاك ومقاتل، وأنكر الزمخشري كون ما نافية، وقال: لا يجوز أن تكون نافية لأن بعد ما لا يعمل فيما قبلها لا تقول زيداً ما ضربت ويجوز أن يعمل ما بعد لم فيما تقول زيداً لم أضرب، وسبب ذلك هو أن الفعل المتعدي إنما يفعل في النفي حملاً له على الإثبات لأنك إذا قلت ضرب زيد عمراً ثبت تعلق فعله بعمرو فإذا قلت ما ضربه لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه لكن المنفي محمول على الإثبات، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عمل الفعل، لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل، فلا تقول زيد ضارب عمراً أمس، وتقول: زيد ضارب عمراً غداً واليوم والآن، لأن الماضي لم يبق موجوداً ولا متوقع الوجود فلا يتعلق بالمفعول حقيقة لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يعمل، إذا عرفت هذا فنقول ما ضرب للنفي في المضي فاجتمع فيه النفي والمضي فضعف، وأما لم أضرب وإن كان يقلب المستقبل إلى الماضي لكن الصيغة صيغة المستقبل فوجد فيه ما يوجد في قول القائل زيد ضارب عمراً غداً فاعمل هذا بيان قوله غير أن القائل بذلك القول يقول: {قَلِيلاً} ليس منصوباً بقوله: {يَهْجَعُونَ} وإنما ذلك خبر كانوا أي كانوا قليلين، ثم قال: {وَمِنَ اليل مَا يَهْجَعُونَ} أي ما يهجعون أصلاً بل يحيون الليل جميعه ومن يكون لبيان الجنس لا للتبعيض، وهذا الوجه حينئذ فيه معنى قوله تعالى: {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم} [ص: 24] وذلك لأنا ذكرنا أن قوله: {إِنَّ المتقين} [الذاريات: 16] فيه معنى الذين آمنوا، وقوله: {مُحْسِنِينَ} فيه معنى الذين عملوا الصالحات، وقوله: {كَانُواْ قَلِيلاً} فيه معنى قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ}.
البحث الثاني: على القول المشهور وهو أن ما زائدة يحتمل أن يكون قليلاً صفة مصدر تقديره يهجعون هجوعاً قليلاً.
البحث الثالث: يمكن أن يقال: {قَلِيلاً} منصوب على أنه خبر كان و(ما) مصدرية تقديره كان هجوعهم من الليل قليلاً فيكون فاعل {كانوا} هو الهجوع، ويكون ذلك من باب بدل الاشتمال لأن هجوعهم متصل بهم فكأنه قال كان هجوعهم قليلاً كما يقال: كان زيد خلقه حسناً، فلا يحتاج إلى القول بزيادة، واعلم أن النحاة لا يقولون فيه إنه بدل فيفرقون بين قول القائل زيد حسن وجهه أو الوجه وبين قوله زيد وجهه حسن فيقولون في الأول صفة وفي الثاني بدل ونحن حيث قلنا إنه من باب بدل الاشتمال أردنا به معنى لا اصطلاحاً، وإلا فقليلاً عند التقديم ليس في النحو مثله عند التأخير حتى قولك فلان قليل هجوعه ليس ببدل، وفلان هجوعه قليل بدل، وعلى هذا يمكن أن تكون ما موصولة معناه كان ما يهجعون فيه قليلاً من الليل، هذا ما يتعلق باللفظ، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول تقديم قليلاً في الذكر ليس لمجرد السجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في أواخر الآيات، بل فيه فائدتان.
الأولى: هي أن الهجوع راحة لهم، وكان المقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى فلو قال كانوا يهجعون كان المذكور أولاً راحتهم ثم يصفه بالقلة وربما يغفل الإنسان السامع عما بعد الكلام فيقول إحسانهم وكونهم محسنين بسبب أنهم يهجعون وإذا قدم قوله: {قَلِيلاً} يكون السابق إلى الفهم قلة الهجوع، وهذه الفائدة من يراعيها يقول فلان قليل الهجوع ولا يقول هجوعه قليل، لأن الغرض بيان قلة الهجوع لا بيان الهجوع بوصف القلة أو الكثرة، فإن الهجوع لو لم يكن لكان نفي القلة أولى ولا كذلك قلة الهجوع لأنها لو لم تكن لكان بدلها الكثرة في الظاهر.
الفائدة الثانية: في قوله تعالى: {مِّنَ اليل} وذلك لأن النوم القليل بالنهار قد يوجد من كل أحد، وأما الليل فهو زمان النوم لا يسهره في الطاعة إلا متعبد مقبل، فإن قيل الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهاراً، لا يقال له الهجوع قلنا ذكر الأمر العام وإرادة التخصيص حسن فنقول: رأيت حيواناً ناطقاً فصيحاً، وذكر الخاص وإرادة العام لا يحسن إلا في بعض المواضع فلا نقول رأيت فصيحاً ناطقاً حيواناً، إذا عرفت هذا فنقول في قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل} ذكر أمراً هو كالعام يحتمل أن يكون بعده: كانوا من الليل يسبحون ويستغفرون أو يسهرون أو غير ذلك، فإذا قال يهجعون فكأنه خصص ذلك العام المحتمل له ولغيره فلا إشكال فيه.


{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)}
إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ويستغفرون من التقصير وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به.
وفيه وجه آخر ألطف منه، وهو أنه تعالى لما بيّن أنهم يهجعون قليلاً، والهجوع مقتضى الطبع، قال: {يَسْتَغْفِرُونَ} أي من ذلك القدر من النوم القليل، وفيه لطيفة أخرى تنبيهاً في جواب سؤال، وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع، ولم يمدحهم بكثرة السهر، وما قال: كانوا كثيراً من الليل ما يسهرون، فما الحكمة فيه، مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع؟ نقول: إشارة إلى أن نومهم عبادة، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلاً، وذلك الهجوع أورثهم لاشتغال بعبادة أخرى، وهو الاستغفار في وجوه الأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار. وفيه مباحث:
البحث الأول: في الباء فإنها استعملت للظرف هاهنا، وهي ليست للظرف، نقول: قال بعض النحاة: إن حروف الجر ينوب بعضها مناب بعض، يقال في الظرف خرجت لعشر بقين وبالليل وفي شهر رمضان، فيستعمل اللام والباء وفي، وكذلك في المكان، نقول: أقمت بالمدينة كذا وفيها، ورأيته ببلدة كذا وفيها، فإن قيل ما التحقيق فيه؟ نقول: الحروف لها معاني مختلفة، كما أن الأسماء والأفعال كذلك، غير أن الحروف غير مستقلة بإفادة المعنى، والاسم والفعل مستقلان، لكن بين بعض الحروف وبعضها تناف وتباعد، كما في الأسماء والأفعال، فإن البيت والمسكن مختلفان متفاوتان، وكذلك سكن ومكث، ولا كذلك كل اسمين يفرض أو كل فعلين يوجد، إذا عرفت هذا فنقول: بين الباء واللام وفي مشاركة، أما الباء فإنها للإلصاق، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان، فإذا قال: سار بالنهار معناه ذهب ذهاباً متصلاً بالنهار، وكذا قوله تعالى: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي استغفاراً متصلاً بالأسحار مقترناً بها، لأن الكائن فيها مقترناً بها، فإن قيل: فهل يكون بينهما في المعنى تفاوت؟ نقول: نعم، وذلك لأن من قال: قمت بالليل واستغفر بالأسحار أخبر عن الأمرين، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله: قمت في الليل، لأنه يستدعي احتواش الزمان بالفعل وكذلك قول القائل: أقمت ببلد كذا، لا يفيد أنه كان محاطاً بالبلد، وقوله: أقمت فيها يدل على إحاطتها به، فإذن قول القائل: أقمت بالبلدة ودعوت بالأسحار، أعم من قوله: قمت فيه، لأن القائم فيه قائم به، والقائم به ليس قائماً فيه من كل بد، إذا علمت هذا فقوله تعالى: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} إشارة إلى أنهم لا يخلون وقتاً عن العبادة، فإنهم بالليل لا يهجعون، ومع أول جزء من السحر يستغفرون، فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب، لأنهم وقت الانتباه في الأسحار لم يخلو الوقت للذنب، فإن قيل: زدنا بياناً فإن من الأزمان أزماناً لا تجعل ظروفاً بالباء، فلا يقال خرجت بيوم الجمعة ويقال بفي، نقول: إن كل فعل جار في زمان فهو متصل به، فالخروج يوم الجمعة متصل مقترن بذلك الزمان، ولم يستعمل خرجت بيوم الجمعة، نقول الفارق بينهما الإطلاق والتقييد، بدليل أنك إن قلت: خرجت بنهارنا وبليلة الجمعة لم يحسن، ولو قلت: خرجت بيوم سعد، وخرج هو بيوم نحس حسن، فالنهار والليل لما لم يكن فيهما خصوص وتقييد جاز استعمال الباء فيهما، فإذا قيدتهما وخصصتهما زال ذلك الجواز، ويوم الجمعة لما كان فيه خصوص لم يجز استعمال الباء، وحيث زال الخصوص بالتنكير، وقلت خرت بيوم كذا عاد الجواز، والسر فيه أن مثل يوم الجمعة، وهذه الساعة، وتلك الليلة وجد فيها أمر غير الزمان وهو خصوصيات، وخصوصية الشيء في الحقيقة أمور كثيرة غير محصورة عند العاقل على وجه التفصيل لكنها محصورة على الإجمال، مثاله إذا قلت هذا الرجل فالعام فيه هو الرجل، ثم إنك لو قلت الرجل الطويل، ما كان يصير مخصصاً، لكنه يقرب من الخصوص، ويخرج من القصار، فإن قلت العالم لم يصر مخصصاً لكنه يخرج عن الجهال، فإذا قلت الزاهد فكذلك، فإذا قلت ابن عمرو خرج عن أبناء زيد وبكر وخالد وغيرهم، فإذا قلت هذا يتناول تلك المخصصات التي بأجمعها لا تجتمع إلا في ذلك، فإذن الزمان المتعين فيه أمور غير الزمان، والفعل حدث مقترن بزمان لا ناشئ عن الزمان، وأما في فصحيح، لأن ما حصل في العام فهو في الخاص، لأن العام أمر داخل في الخاص، وأما في فيدخل في الذي فيه الشيء، فصح أن يقال: في يوم الجمعة، وفي هذه الساعة، وأما بحث اللام فنؤخره إلى موضعه، وقد تقدم بعضه في تفسير قوله تعالى: {والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا} [ياس: 38] وقوله: {هُمْ} غير خال عن فائدة، قال الزمخشري: فائدته انحصار المستغفرين، أي لكمالهم في الاستغفار، كأن غيرهم ليس بمستغفر، فهم المستغفرون لا غير، يقال فلان هو العالم لكماله في العلم كأنه تفرد به وهو جيد، ولكن فيه فائدة أخرى، وهي أن الله تعالى لما عطف {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} على قوله: {كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] فلو لم يؤكد معنى الإثبات بكلمة {هُمْ} لصلح أن يكون معناه: وبالأسحار قليلاً ما يستغفرون، تقول فلان قليلاً ما يؤذي وإلى الناس يحسن قد يفهم أنه قليل الإيذاء قليل الإحسان، فإذا قلت قليلاً ما يؤذي وهو يحسن زال ذلك الفهم وظهر فيه معنى قوله: قليل الإيذاء كثير الإحسان، والاستغفار يحتمل وجوهاً:
أحدها: طلب المغفرة بالذكر بقولهم ربنا اغفر لنا.
الثاني: طلب المغفرة بالفعل، أي بالأسحار يأتون بفعل آخر طلباً للغفران، وهو الصلاة أو غيرها من العبادات.
الثالث: وهو أغربها الاستغفار من باب استحصد الزرع إذا جاء أوان حصاده، فكأنهم بالأسحار يستحقون المغفرة ويأتيهم أوان المغفرة، فإن قيل: فالله لم يؤخر مغفرتهم إلى السحر؟ نقول وقت السحر تجتمع ملائكة الليل والنهار، وهو الوقت المشهود، فيقول الله على ملأ منهم: إني غفرت لعبدي، والأول أظهر، والثاني عند المفسرين أشهر. ثم قال تعالى:


{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}
وقد ذكرنا مراراً أن الله تعالى بعد ذكر تعظيم نفسه يذكر الشفقة على خلقه، ولا شك أن قليل الهجوع المستغفر في وجوه الأسحار وجد منه التعظيم العظيم، فأشار إلى الشفقة بقوله: {وَفِى أموالهم حَقٌّ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: أضاف المال إليهم، وقال في مواضع: {أَنفِقُواْ مِمَّا رِزَقَكُمُ الله} [ياس: 47] وقال: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} [الشورى: 38] نقول سببه أن في تلك المواضع كان الذكر للحث، فذكر معه ما يدفع الحث ويرفع المانع، فقال: هو رزق الله والله يزرقكم فلا تخافوا الفقر وأعطوا، وأما هاهنا فمدح على ما فعلوه فلم يكن إلى الحرص حاجة.
المسألة الثانية: المشهور في الحق أنه هو القدر الذي علم شرعاً وهو الزكاة وحينئذ لا يبقى هذا صفة مدح، لأن كون المسلم في ماله حق وهو الزكاة ليس صفة مدح لأن كل مسلم كذلك، بل الكافر إذا قلنا إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم غير أنه إذا أسلم سقط عنه وإن مات عوقب على تركه، وإن أدى من غير الإسلام لا يقع الموقع، فكيف يفهم كونه مدحاً؟ نقول الجواب عنه من وجوه:
أحدها: أنا نفسر بمن يطلب شرعاً، والمحروم الذي لا مكنة له من الطلب ومنعه الشارع من المطالبة، ثم إن المنع قد يكون لكون الطالب غير مستحق، وقد يكون لكون المطلوب منه لم يبق عليه حق فلا يطالب فقال تعالى في ماله حق للطالب وهو الزكاة ولغير الطالب وهو الصدقة المتطوع بها فإن ذلك المالك لا يطالب بها ويحرم الطالب منه طلباً على سبيل الجزية والزكاة، بل يسأل سؤالاً اختيارياً فيكون حينئذ كأنه قال في ماله زكاة وصدقة والصدقة في المال لا تكون إلا بفرضه هو ذلك وتقديره وإفرازه للفقراء والمساكين، الجواب الثاني: هو أن قوله: {وَفِى أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ} أي مالهم ظرف لحقوقهم فإن كلمة في للظرفية لكن الظرف لا يطلب إلا للمظروف فكأنه تعالى قال هم لا يطلبون المال ولا يجمعونه إلا ويجعلونه ظرفاً للحق، ولا شك أن المطلوب من الظرف هو المظروف والظرف مالهم فجعل مالهم ظرفاً للحقوق ولا يكون فوق هذا مدح فإن قيل فلو قيل مالهم للسائل هل كان أبلغ؟ قلنا: لا وذلك لأن من يكون له أربعون ديناراً فتصدق بها لا تكون صدقته دائمة لكن إذا اجتهد واتجر وعاش سنين وأدى الزكاة والصدقة يكون مقدار المؤدى أكثر وهذا كما في الصلاة والصوم ولو أضعف واحد نفسه بهما حتى عجز عنهما لا يكون مثل من اقتصد فيهما، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق؛ فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».
وفي السائل والمحروم وجوه:
أحدها: أن السائل هو الناطق وهو الآدمي والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات المحرومة قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لكل كبد حرى أجر».
وثانيها: وهو الأظهر والأشهر، أن السائل هو الذي يسأل، والمحروم المتعفف الذي يحسبه بعض الناس غنياً فلا يعطيه شيئاً.
والأول: كقوله تعالى: {كُلُواْ وارعوا أنعامكم} [طه: 54].
والثاني: كقوله: {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} [الحج: 36] فالقانع كالمحروم فإن قيل على الوجه الأول الترتيب في غاية الحسن، فإن دفع حاجة الناطق مقدم على دفع حاجة البهائم، فما وجه الترتيب في الوجه الثاني؟ نقول فيه وجهان:
أحدهما: أن السائل اندفاع حاجته قبل اندفاع حاجة المحروم في الوجود لأنه يعرف حاله بمقاله ويطلب لقلة ماله فيقدم بدفع حاجته، والمحروم غير معلوم فلا تندفع حاجته إلا بعد الاطلاع عليه، فكان الذكر على الترتيب الواقع.
وثانيهما: هو أن ذلك إشارة إلى كثرة العطاء فيقول يعطي السائل فإذا لم يجدهم يسأل هو عن المحتاجين فيكون سائلاً ومسؤولاً.
الثالث: هو أن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي، فإن قول القائل إن رجوعهم إلينا وعلينا حسابهم ليس كقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية: 26] والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى، وكما أن الإنسان الذي نور روحه بالمعرفة ينبغي أن ينور جسمه الظاهر بالنظافة، كذلك الكلام ورب كلمة حكمية لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها، إذا عرفت هذا فقوله: {وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِى أموالهم حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم} أحسن من حيث اللفظ من قولنا وبالأسحار هم يستغفرون، وفي أموالهم حق للمحروم والسائل، فإن قيل قدم السائل على المحروم هاهنا لما ذكرت من الوجوه، ولم قدم المحروم على السائل في قوله: {القانع والمعتر} لأن القانع هو الذي لا يسأل {والمعتر} السائل؟ نقول قد قيل إن القانع هو السائل والمعتر الذي لا يسأل، فلا فرق بين الموضعين، وقيل بأن القانع والمعتر كلاهما لا يسأل لكن القانع لا يتعرض ولا يخرج من بيته والمعتر يتعرض للأخذ بالسلام والتردد ولا يسأل، وقيل بأن القانع لا يسأل والمعتر يسأل، فعلى هذا فلحم البدنة يفرق من غير مطالبة ساع أو مستحق مطالبة جزية، والزكاة لها طالب وسائل هو الساعي والإمام، فقوله: {لَّلسَّائِلِ} إشارة إلى الزكاة وقوله: {والمحروم} أي الممنوع إشارة إلى الصدقة المتطوع بها واحدهما قبل الأخرى بخلاف إعطاء اللحم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8